
كان النهار قد انتصف والطيور عادت بِطانا إلى أعشاشها وحان وقت قيلولتها وفق نواميس تلك الأمكنة.. الوقت موسم فيضان وأمواج النهر الهاربة من قبضة الضفاف تحمل كل شيءٍ أمامها..
جلست إلي جدي عند حافة النهر وهواء البحر يغشانا فيفتح نوافذ تغري بالأنس بين الجد والحفيد ..كنت في بواكير شبابي وكان جدي شغوفا بمعرفة الأخبار ويظن بي المعرفة باعتباري شابا متعلما..
طفت به تعريفا على بلاد جافة تشكو العطش ويدها مغلولة من الزراعة لأن أرضيها جرداء ، حدثته أن هناك بلادا مطرها يهطل في الشتاء..كان يتبسم وبعصاة صغيرة ينقر على الأرض المعشوشبة ويطلب المزيد ، كنت أجمح بخيالي وأضيف من عندي لأشبع نهمه..
سألني بعفويته الوفيرة : لماذا يذهب الناس بعيدا وهذا البلد واسع وخيراته كثيرة ومياهه وفيرة .. أنظر إلى هذا الخير ( النهر ) .. قلت له يا جدي تلك بلاد وهذه بلاد مختلفة .. تعجب ..وصمت ..ومد بصره بعيدا.. كان جدي يعتقد جازما أن العالم كله يقع في حدود دائرته وأن الأفق أمامه هو حدود الدنيا …
تمضي السنين ويرحل جدي عليه رحمة الله ويطوي الزمن حديثنا..لكنّ دراسة نشرتها صحيفة الإندبندنت البريطانية في الأيام الماضية أحدثت تفاعلا كثيفا أعادت لي صدى حديث جدي بفطرته السليمة ، وهو أن أي إنسان على ظهر كوكب الأرض أصله ومنبته من أرض السودان ويبدو أنها تقصد إقليم السودان بجغرافيته القديمة واستندت الصحيفة على دراسات وبحوث متشعبة ومتعمقة من مراكز وجامعات بريطانية عريقة ..
سيدور النقاش وتتباين الرؤى ويتبارى العلماء في إثبات أو تفنيد ذلك رغم أن الحقيقة التي عليها إجماع هي أن أصل الإنسان من إفريقيا …
قفز سؤال إلى ذهني : هل كان جدي عالما (سوسيولوجيا ).. أم حدسه كان شفافا.. أم كان هناك إحساس يهتف داخله أنه من أرض هي مهد البشرية؟
لا أدري…. لا أدري