آخر الأخبارمقالات

طارق يسن الطاهر يكتب : من أضاع السودان؟

 

لا أريد أن يكون هذا السؤال مؤطرًا، فالسؤال المؤطر هو الي يحمل المجيب لخيارات محدودة، وليست مفتوحة، فهنا يحدد العنوان أنّ السودان قد ضاع، ويريد من القارئ أن يجيب عن المتسبب في ضياعه، لكننا إذا استقرأنا الواقع فنجد فعلا أن السودان قد ضاع، ولا يختلف في ذلك اثنان، ولا يتناطح فيه عنزان.

ولا أريد أن أكون سوداويا ومتشائما، فالمتابع لكتاباتي يجدني – دائما – أضيء شمعة في آخر النفق المظلم الذي نحن فيه الآن، فلعلها تجد من يقتنصها، وينير بها دربنا المظلم.

ولو تناولنا السؤال بطريقة أخرى، ليصلح للإجابة عنه، ونقول:
من الذي أوصلنا لهذه المرحلة؟

وهي أسوا مراحل عمر هذا الوطن: فقر مدقع وأمن مفقود وحياة متعطلة وجامعات مغلقة ومدارس حجب عنها تلاميذها، وعملة منهارة، وطن مستباح للجميع، ومطمع للغريب والقريب …

في محاولة للإجابة عن المتسبب فيما بلغته بلادنا الآن نقول :
إنهم الجميع، حكام ومحكومون، هم من تسبب في هذا الدمار الشامل.

أضاع السودان مَن تعجّل نيل الاستقلال، قبل أن تنضج الحرية داخلنا بفهمها السليم.

أضاع السودان من نادى بالاستقلال، ولم يهيئ البلاد والعباد، بل لم يهيئ حتى نفسه للمرحلة التي تعقب الاستقلال وخروج المستعمر، فهي مرحلة دقيقة وحرجة، مثلها مثل المريض الذي خرج من عملية ناجحة، لكنه إن لم يحافظ ويتبع التعليمات، فسيتضرر وتفشل العملية، ويعود أسوأ مما كان.

أضاع السودان من ظنَّه الناس مدنيا ومواطنا صالحا يحكم هذه البلاد، ويمضي بها في طريق الحرية والديمقراطية، ولكنه أسلمها طائعا لعسكري ليحكمنا، لأن هوس “البيادة” متجذر فينا حتى في نخبنا السياسية.

أضاع السودان من فرّط في جزء من أرض الوطن، ومنح أرضا غالية لدولة مجاورة في عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.

أضاع السودان من حكم بالظلم والقهر والحديد والنار ، واعتقل المخالفين والمواطنين والوطنيين الشرفاء.

أضاع السودان من ظنوا فيه أنه يحمي المكتسبات ويفتح المجال لرياح الحرية أن تهب، ويتيح لمناخ الديمقراطية أن تثمر، ففشل وعادوا به مرة أخرى ففشل.

أضاع السودان من تنقل بين كل الأفكار، وتحول بين كل المذاهب، وانضم لكل الأحزاب، فشرّق وغرّب ونحا نحو أقصى اليمين، وانتبذ تجاه أقصى الشمال، وفترات يكون مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وفتح البلاد للطامعين، وأفقر الخزينة وقمع وقتل وسجن وشرد.

أضاع السودان من ظن نفسه خليفة المسلمين، وتخيل أنه يحكم العالم، وليس وطنا فقط، وفتح البلاد لكل من طردته بلاده.

لأضاع السودان مَن فصَلَ الأكْفَاء من العاملين في شتى الوظائف والمناصب؛ ليحل محلهم من يوالي، فنحن في زمن الولاء والانتماء، وليس زمن الكفاءة والقدرة، فالمكان لمن ينفذ أجندة التنظيم، لا من يخدم الوطن والمواطن.

أضاع السودان من مكَّن الحركات المسلحة، وفتت الأحزاب، وجعلها تتشظى، ومن فرط في ثلث مساحة الوطن ليبقى على كرسيه، فلا الثلث بقي ولا الكرسي دام له.

 

أضاع السودان من جاء بعد كل هؤلاء، فكان كالتلميذ الغبي الذي أعيد له الدرس عدة مرات، ولم يفهم، فكرر فشل السابقين، وجمعه كله في نموذج أسوأ ما مر على البلاد؛ لأن السابقين لهم جانب سوء واحد أو اثنين، فهذا جمع كل سوءاتهم في شخصه، وحواها في حكمه، وتمكن من تطبيقها كلها على هذا الوطن الجريح الذي يصيح، ولا مستجيب:
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا

 

أضاع السودان من انتهك العرض، واحتل الأرض، وسكن بيوت المواطنين، وقطع أرزاقهم، وروع آمنهم، وشتت شملهم.

أضاع السودان كل موظف ارتشى، وأعطى الحق لغير أهله، ومن تأخر عن عمله، وخرج مرارا أثناء عمله ليقضي مصالحه الشخصية، وترك مصالح الناس.

أضاع السودان كل عالِم تكلم في قضايا الدين جميعها من الجهاد إلى الحيض، ولكنه سكت عن الحاكم الظالم فلم ينصحه ولم يحذره، ولم يبين حرمة الدماء المراقة في شوارع البلاد.

أضاع السودان كل نظامي أخل بعمله ، ولم يلتزم قسمه، ولم يقم بمهامه، فعرقل مصالح الناس، وحابى معارفه.

أضاع السودان كل فرد في الجيش ترك مهامه وسعى للتكسب والارتزاق واستغلال النفوذ لمآربه الخاصة.

أضاع السودان ذلك الذي يعد مثالا مشرفا للانضباط والنجاح في الخارج، وكان نموذجا مقززا للإهمال والتسيب عندما كان في بلده.

أضاع السودان ذلك الطبيب الذي يرى عذابات المواطن أمامه، ولم يبر بقسمه، ولم يعمل بمروءته، ولم يتحرك بدافع إنسانيته؛ فترك المريض يتألم؛ فيموت؛ لأنه لم يدفع .

أضاع السودان ذلك المعلم المهمل الذي لم يؤد أمانته في رعاية النشء وتعليم الصبية وإرشاد الكبار، فكان عونا لهم على الفساد، ومعينا لهم على الفشل.

أضاع السودان كل مهندس أهمل في عمله؛ فانهار جسر أو تهتك طريق أو سقط مبنى…

أضاع السودان كل تاجر احتكر المواد، والمواطن بحاجتها، ورفع السعر وكان قد اشتراها بسعر قديم؛ فزادت بسببه فاقة الناس وتفشى الفقر وانتشر العوز .

 

أضاع السودان كل نفر تجمعوا وفكروا في كيفية أخذ كعكة من هذا الوطن، فشكلوا حركة مسلحة، قتلت ونهبت وسرقت وأفسدت وأهلكت الحرث والنسل.

أضاع السودان كل وزير جلس في كرسي لا يستحقه، واستغل نفوذه لأخذ ما لا يستحقه.

أضاع السودان من جعل “القونات” قدوة، ومن رمى لهن المبالغ المالية- وهن يغنين ويتراقصن- وأبناء وطنه بحاجة إلى مصل ثعبان أو حقنة أنسولين أو غسل كلى…

أضاع السودان من غنى للقائد الملهم، ومن قال نقولها نعم، من غنى لما سماها ثورة، وسماها إنقاذا، وجعلها تهب.

أضاع السودان كل حزب يغيَّر جلده بتغير الحاكم، ويتعاون مع أعداء الوطن؛ ليتمكن من الحكم فهو يمضي بلا مبادئ ولا أخلاق.

أضاع السودان كل من ولي أمرا ولم يرع حقه، وحق من وليهم، ولم يعمل بأمانة وإخلاص، وافتقد التخطيط والإدارة والقيادة.

أضاع السوان من دمَّر الوطن؛ ليُحرج الحكومات، وهو قد خلط بين الوطن والحكومة.

كل هؤلاء شركاء في دم هذا الوطن، – ولن أستثني أحدا- ولن يعفيهم دفع دية، ولن تنقذهم توبة ، ولن يفيدهم عفو أهل الدم، ولا أحب الخوض في رمي التهم على الخارج، ولا أحبذ نظريات المؤامرة؛ فمهما تآمر عليك الأعداء، فإن لم تعطهم الفرصة فلن يتمكنوا منك، فمَن كان بيته بلا حراسة، فلا يلومنَّ اللصوص.

أخيرا
ألا يقرأ حكامنا سير العظماء الذين نهضوا ببلادهم وليس فيها مما لدينا شيء، فصارت دولا يشار لها بالبنان، ولا تخطئها العين؟!

فالله أعطانا وطنا مليئا بالخيرات، لا نستحقه؛ لأننا من الذين يخربون بيوتهم بأيديهم.

ــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com

 

#شبكة_السودان_نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: