هشام أحمد شمس الدين يكتب : إلى فضيلة الشيخ عبد الحي يوسف، وعامة المؤيدين لفتواه
الخرطوم : السودان نيوز

http://هشام أحمد شمس الدين يكتب : إلى فضيلة الشيخ عبد الحي يوسف، وعامة المؤيدين لفتواه
بعد السلام عليكم ورحمة الله.
قد تفرعت مسائل الدين وتعقدت، بتشعب وجدة النازلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبتعدد ضروب العلوم والمعارف وجنوحها نحو التخصصية والتدقيق، مما يدفع بالفقه نحو مزيد من الاتساع والتخصص، الذي ينبغي أن لا ينصرف عن وحدة المنهج والمصدر.
ولا نقصد بذلك أن هناك فقر في المدونة الفقهية على العموم، فلا يقول بذلك إلا جاهل بتراث المسلمين، إنما المقصد قصور في جوانب قديمة متجددة وأخرى حديثة طرأت على حياة الناس وعلومهم.
وقد نقل عن الشيخ من قبل – إن صح وصدق النقل- قوله إنه فقيه عامة، وهذا المصطلح فيه شيء من غموض الدلالة، إلا أنه كذلك معلوم في جوانب أخرى، فالمعنى في حده الأدنى أن الشيخ مختص في الأحوال التي تشغل عامة الناس في عباداتهم وشعائرهم، فيما يطرحونه عليه من مسائل دارجة على الفرد والجماعة، معلوم جوابها للدارس والمتفقه، احتوتها كتب الفقه والأصول، فتعريفه لمجال اختصاصه – فقيه عامة – فيه إنصاف لنفسه وعدل في مجال اشتغاله، وإني أعلم كذلك أنه من دارسي العقيدة، فإن أضفنا هذا لذاك يستبين أن مجال اشتغاله هو مسائل العقيدة ومسائل العامة.
وإن الشيخ عبد الحي ليعلم أن بين هذا وذاك بحر من النازلات، ومحيط من المشكلات، التي يصعب تصنيفها باعتبارها أمر عقيدة، ليستدعى لها عالم عقيدة أو أمر فقه عام ليستدعى له فقيه عامة.
فإن ذكرنا ما يواجه الشعب السوداني اليوم، من مشكلات المعاش والتصريف والتدبير، وبالأخص مسألة تحرير صرف العملة (التعويم)، وبأخص الأخص مسألة بيع الدولار للمصارف بديلاً عن السوق السوداء، سنجد أننا نغوص في قضايا مشتجرة، حولها من الخلاف والاصطراع ما حولها، ولا يمكن تصنيف السالك والمقرر فيها، الذي يختار هذا أو ذاك من الخيارات، باعتبار أنه مخالف للعقيدة الإسلامية نظرًا، ولن نجد نصًا مباشرًا في المدونة الفقهية المعتبرة لديكم، يقر بأنه قد خالف مسألة فقهية معتبرة ينبغي تصحيحها من فقيه عامة.
ولا أقصد بذلك لا سمح الله أن الدين والتدين غير شامل لهذه الفجوة التشريعية، إنما أقصد أن علم العقيدة ودارج المسائل الفقهية لا تغطي هذه المساحة، ولابد أن الشيخ ومؤيديه قد التمسوا الحاجة للتجديد في الفكر الإسلامي في هذه المسألة وفي غيرها، ولابد أنهم قد التمسوا الحاجة لفقيه مسلم، عالم في الاقتصاد المعاصر، وآخر عارف بعلم الاجتماع المعاصر، وآخر خبير بشأن السياسية وإدارة الدولة وتصريف الحكومات، وغير ذلك مما ينبغي أن يشمله مجمع للفقه مثلًا، ينهض بهذه الأمة نحو حضارة وازدهار وخلق.
إن فتوى الشيخ عبد الحي يوسف – أو رأيه – بعدم جواز تحويل العملة الصعبة عبر المصارف، فيه خروج عن ما رسمه لنفسه من اشتغال، وفيه ولوج لمساحة شائكة تتطلب قيام آخرين من الأمة، صفاتهم أنهم مسلمون، حريصون على الدين، أصوليون، فقهاء، علماء بالاقتصاد ومدارسه المختلفة، خبراء بالدولة وشؤون إدارتها.
وربما وجد الشيخ آية في كتاب الله العزيز فيها لفظ توهم أنه وسيط لمقاربة الواقع، ففسر وأول فأخرج الفتوى أو الرأي، ولكنه إن تدبر الآية: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا)، إن تدبرها بمنهج غير شاذ ولا مغاير عن ما ألفه ودرسه، ومما هو أقرب لمنحى المدرسة التي ينتمي إليها، ومن أقوال فقهاء وعلماء تفسير، لوجد دلالة هذه الآية الكريمة غير مسعفة في ما طلب من رأي.
فسياق الآية الخامسة من سورة النساء يبدأ من بداية السورة، ولكنه يتضح جليًا ابتداءً من الآية الثانية التي تتحدث عن اليتامى وضرورة رد أموالهم إليهم والتحذير من أكلها بالباطل، ثم الآية الثالثة التي تتحدث عن القسط في اليتامى وتشريع الزواج من أربع للكفالة، ثم الآية الرابعة التي تأمر بإعطاء النساء صدقاتهن، ثم الآية الخامسة والتي هي موضع الاستدلال، حيث تحذر من من إيتاء السفهاء الأموال، ثم الآية السادسة التي تعود وتتحدث عن اليتامى والنكاح ورد أموال اليتامى إليهم والتحذير من أكلها إلا بالمعروف.
يتضح من ذلك أن الآية موضع الاستدلال لا تأتي في سياق إدارة الشأن العام أو تدبير شأن الدولة أو كيفية التعاطي مع الحكام، إنما تأتي في سياق اجتماعي محدد، في وضع اليتامى في المجتمع المسلم والوصاية على أموالهم وشروط هذه الوصاية وحدودها، وكيفية صيانة هذه الأموال، وإن تعدت ذلك في المعنى فإنها لا تخرج من دائرة أموال السفهاء وكيفية التصرف فيها.
فهناك مفارقة في السياق لا تؤهل اتخاذه حجة أو دليل للفتوى في شأن التعامل ماليًا مع النظام القائم في السودان.
وبالعودة للآية: “وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا”، فقد جانب الصواب الشيخ عندما نظر فحسب إلى صدر الآية (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)، ولم يمعن النظر عفا الله عنه في ما تلى ذلك، فما هو تالي يخبر عن الأموال التي كلفنا الله عز وجل بإدارتها، والتي هي ملك لهؤلاء السفهاء، فأمرنا الله تعالى أن نرزق السفهاء منها، وأن نكسوهم منها، وأن نقول قولاً معروفًا لهم، فإن كان هؤلاء السفهاء هم حكام علينا، فكيف نرزقهم ونكسوهم نحن، وهم المطالبون بتدبير هذا الرزق وهذه الكسوة؟ وما هي أموالهم التي من حقهم ولكنا نمنعهم منها لسفههم، ولا نعطيهم منها إلا بقدار؟
وكما أسلفت، بالعودة لما ألفتم من فقه، ولما استقر من أقوال فقهاء وعلماء تفسير على منهجكم، سنجد أن معنى السفهاء في هذه الآية مختلف عن ما ذهب إليه الشيخ، ففي تفسير الإمام الطبري نقل عن أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في”السفهاء” الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم. فقال بعضهم: هم “النساء والصبيان”.
وقول سعيد بن جبير: “اليتامى والنساء”. ونقل ابن كثير في تفسيره قول سعيد بن جبير: اليتامى والنساء، وقول الحسن: “لا تعطوا الصغار والنساء”، وفي رواية “المرأة والصبي”، وفي رواية السفهاء “ابنك السفيه، وامرأتك السفيهة”.
وبغض النظر عن تعميم اعتبار النساء من السفهاء في كثير من التفاسير – وهذا مما هو بحاجة لتجديد من الشيخ وتياره – فإن تفاسير كثيرة مؤيدة للقول بأن السفهاء هم النساء والصبية أو الأطفال، مما لا يتسع لها المقام.
أما إن أراد الشيخ التوسع في المعنى، باعتبار أن كل من لا يحسن التصرف في المال سفيه، وهذا يجوز لغةً، ثم أراد اتخاذ قاعدة عامة، أن لا نؤتي هذا السفيه أموالنا، فسيترتب على ذلك أولا إبطال الاستدلال بالآية الكريمة آنفة الذكر، ثم الولوج في فقه آخر، يختص بالسياسة وشأن الدولة وإدارة الاقتصاد، وهذا ما يعوز الشيخ مع بالغ تقديرنا لعلمه ومكانته.
إن حديثي هذا ليس المراد منه الدفاع عن الفئة الحاكمة اليوم، فرأيي أن فيها سفهاء دين وسفهاء مقصد، ولكن لا أجزم أن جميع من فيها هم كذلك، وبالنظر السياسي فإنه مهما كان حال هؤلاء، فإنهم يديرون شأن البلاد في ظرف دقيق، قد ينهار فيه كيان الدولة من الأساس، وينزلق فيه المجتمع نحو هاوية لا قرار لها، فلا يوجد أمام السودانيين بحبوحة من الخيارات، فإنجاح المساعي لإصلاح الاقتصاد ليس المراد منه نصرة هؤلاء، إنما تلاف لخطر عظيم، قد لا يدع مجالًا لأي حكيم أو راشد قد يأتي يومًا قاصدًا الإصلاح، وهذا يتطلب كما أسلفت فقه بالسياسة والتاريخ وتجارب الأمم، يضاف إلى فقه العامة وعلم العقيدة.
إني لست سوى مذكر، فأرجو من فضيلة الشيخ التراجع عن ما اعتبره البعض “فتوى دينية” في حق بيع النقد الأجنبي في المصارف الوطنية.
#حول_قروشك_بالبنك